• 2022-04-17

إدارة التجارة مع الله

أثناء رحلتي للحج عام 2009 تتبَّعني في الحرم أحد الحجاج لا أعرفه، وكان مندهشًا ومتعجبًا بشدة حينما وجدني أجلس في صحن الحرم ومعي قلم ودفتر؛ أراجع خطة وبرنامج اليوم وأرتب فقرات اليوم، واختتم اندهاشه بأنه لم ير مثل هذا المشهد وهو يأتي للحرم مرات عديدة؛ ولم يُقابل من يلبس الإحرام وبيده المسبحة واليد الأخرى بها قلم وورقة!
مثل هذا المشهد جعلني أتعجب مِن تَعجُّب هذا الرجل، ولماذا صُدِم مما رأه؟ فذهبتُ بخيالي كي أبرر سبب صدمته، فقد نسمع عن إدارة المشروعات، ونسمع عن إدارة الموارد البشرية وإدارة الأعمال، لكننا لم نسمع عن إدارة التجارة مع الله، عن إدارة العبادات ومواسم الطاعات، وقد تبيَّن لي أن التعجب يرجع إلى سببين:
السبب الأول: المفهوم الخاطىء والمغلوط حول التجارة مع الله وأداء العبادات والطاعات، فينظر لها البعض بأنها شيء من الروحانيات والتجليات والإخلاص فقط، فيتركها لظروف إتيانها أو لمواسمها أو لتوفيق ربه دون الأخذ بالأسباب، أو لحين أنْ تأتي الفرصة أو لحين أنْ تأتي الهداية كما يقولون ...إلخ.
السبب الثاني: المفهوم الخاطىء والمغلوط حول الإدارة؛ فيُنظَر لها أنها تَخص الحياة الدنيا وليس الآخرة، وتخص الجانب المادي وليس الروحي، وتَخص الشركات والمؤسسات وليس القلوب والأرواح، وتخص العِباد وليس رب العباد، وتخص الأموال وليس الحسنات.
وحينما تعمقتُ في أصل هذه المفاهيم المغلوطة المندسة لم أجد لها أصلاً ولا مصدراً، فلنذهب إلى فريضة الحج والتي تتطلب إعادة تأهيل نفسي وبدني وروحي؛ من بداية العزم إلى الدقة والتنظيم في الأماكن والتوقيتات وكيفية الأداء لتحقيق حالة النجاح بنهاية طواف الوداع، بل نذهب إلى جميع أركان الإسلام التي تتطلب من الشروط والضوابط والنظام وطرق الأداء ومتابعة الأداء من خلال المحاسبة، فلن تجد إلا الإدارة لتصل إلى حالة النجاح من هذه العبادات.
ومن العجيب أن قدوتنا صلى الله عليه وسلم كان له جدول أعمال ثابتاً عند قيامه الليل منذ استيقاظه إلى أن يصعد سيدنا بلال ويرفع أذان الفجر.
بل وحتي بالمنطق والتفكير المجرد فكلما ارتفع الثمن وزادت الفرص وحرصنا على الأرباح في وجود المخاطر؛ وَجبت الإدارة لضمان المكاسب وتعظيم العوائد، وهذا ما يحدث في العبادات والطاعات فالثمن هو رضا الله والجنة، والفرص كوننا مازلنا أحياء ورضينا بالإسلام دينًا وتفضَّل الله علينا الله بعبادته، وفي الوقت نفسه يتربص بنا الشيطان ليُكَبِّدنا الخسائر، لذلك لزم علينا التخطيط والتنظيم والترتيب والمتابعة بمحاسبة النفس لضمان حسن الأداء مع الله تعالى.
فهلَّا - أيها التاجر مع الله - أمسكت ورقة وقلماً واجتمعت مع الأسرة لإدارة شهر رمضان بأفضل الطرق،
وهلَّا - أيها التاجر مع الكريم - خططت لتحصل على أعلى المكاسب والأرباح من العشر الأوائل من ذي الحجة..
بل هلَّا - أيها التاجر مع الله - رتبت طاعتك وعبادتك اليومية من القرآن والذِكر والصلوات وغيرها.
فليتنا نطبق مهارات الإدارة مع العبادات والطاعات كما نطبقها في التجارة والأموال، فحينها سنربح ونكسب الدنيا والآخرة، فقط لأننا نجحنا في إدارة التجارة مع الله.

آخر أخبار د.علي عبدالغفار

  • حينما يسبق الأفراد القيادة

    2022-12-21

    القيادة بمثابة الرأس للجسد؛ فهي القاطرة التي تقود المؤسسة أو الكيان إلى النجاح والتقدم، والتاريخ مليء بقيادات غيَّرت وجه التاريخ، وأولها بالطبع القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت القيادة بهذه الأهمية وهذا التأثير فلابد لها من مجموعة خصائص وم...

  • إدارة الأسرة قبل إدارة الشركة

    2022-10-16

    ذهبت الزوجة إلى زوجها مدير الشركة، وعند دخولها مكتبه توقفت باندهاش أمام مشهد عجيب لم تره منذ زمن بعيد، فقد رأت زوجها مدير الشركة جالساً مع مجموعة من العاملين يسمع لهم ويناقش مشاكلهم ويمازحهم. وفي حالة أخرى ذهب الولد إلى أبيه مدير الشركة، وفجأة انزوى...

  • إدارة الذات قبل إدارة المؤسسات

    2022-09-16

    لو سألت مدير شركة أو مؤسسة عن معلومات وبيانات شركته لَأفاض عليك وزيادة بتقارير شفوية وأخرى مكتوبة، لكنه يقف ولا يحرك ساكناً حينما تسأله عن معلومات حول شخصيته، وعن معرفة ذاته وعن ميوله ونقاط قوته وضعفه، ولسان حاله يقول "من أين أُحضِر لك هذه المعلومات ...

  • نمط الإدارة ونجاح المؤسسات

    2022-07-19

    يكفي أن تبلغني عن كون هذه المؤسسة ناجحة أو خاسرة حتى أرد عليك وأنا في مكتبي عن طريقة ونمط الإدارة والممارسات الإدارية التي تتم داخل تلك المؤسسة، وهذا ليس سحراً ولا ادعاء الغيب لكنه علم؛ حيث إن كل شيء له دلالاته ومؤشراته التي تُنبىء بالنتيجة، فالنجاح ...

  • شيخوخة المؤسسات والتنظيمات

    2022-06-19

    لطالما سمعنا عن وصول الإنسان إلى مرحلة الشيخوخة باعتباره كائناً حياً، ومن سنن الله في خلقة أن يمر الإنسان بمراحل عمرية حتى يصل إلى مرحلة الشيخوخة ثم إلى نهاية عمره. أما عندما نسمع من يقول إن المؤسسات والتنظيمات لها مراحل عمرية تصل بها إلى مرحلة الشي...

  • الروتين المظلوم

    2022-05-18

    دائماً ما يردد البعض القول.. "الروتين ممل، اللي نصبح فيه نِبَات فيه، الروتين يقتلني، أنا أصبحت أكره الروتين"، هذه كلمات نسمعها ذماً وسبَّاً في (الروتين)، ومعنى الروتين: هو التَّعَوُّد على عمل ما أو إجراء مكرر، وهي كلمة أصلها فرنسي وتعني تكرار عمل أو ...